يوميات مسافر
الحلقة الرابعة : سمرقند
اليوم الأول
نزلت في سمرقند مع أولى خيوط الشمس، تلك التي ترسم خطوطًا ذهبية فوق القباب الزرقاء والمنارات التي لا تزال تهمس بحكايا الماضي. الهواء نقيّ، يعبق بعطر التاريخ وبقايا بخور الحرير القادم من قرون بعيدة. استقبلتني المدينة بصمتها الوقور، كأنها عروس شرقية خجولة، تخبئ أسرارها خلف نقوش المساجد والأسواق القديمة.
اليوم الثاني
زرتُ ساحة ريجستان، قلب المدينة النابض. ثلاث مدارس تتقابل كأنها تجسيد لثلاثة عصور تتجادل في صمت. جلست تحت قبة المدرسة الشرقيّة، أنظر إلى السماء من نافذة الزمن. كل بلاطة زرقاء كانت تروي قصة عالم، أو تلميذ، أو شيخ قضى عمره بين الكتب والسجادات. شعرت أنني أصغر من أن أُفهم ما ترى عيناي، لكن قلبي كان ممتلئًا بخشوع يشبه الصلاة.
اليوم الثالث
مشيت في سوق المدينة القديمة، بين تجار السجاد، وباعة الفواكه المجففة، والذهب المطرّز بالحكايا. امرأة مسنّة باعتني قطعة خبز بالسمسم، وقالت لي: "من يزور سمرقند، لا يعود كما جاء". لم أفهم حينها، لكني أحسست أن شيئًا داخلي بدأ يتغيّر، كأنّ ذاكرتي نفسها بدأت تعيد ترتيب صورها.
اليوم الرابع
زرت ضريح الإمام البخاري، وخشعت روحي أمام العظمة البسيطة للمكان. لا زخارف مبالغ فيها، ولا أضواء زائفة، فقط سكينة لا يعرفها إلا من حمل العلم في قلبه. جلست قرب القبر، وقرأت آية من القرآن، شعرت بها تخترق الهواء وتلامس أرواحًا خفية، ربما كانت هنا منذ قرون.
اليوم الخامس
مررتُ بحدائق المدينة، ورأيت شجرة رمان مثقلة بالثمار. جلست تحتها أكتب، فاقترب مني طفل صغير، سألني إن كنت غريبًا. حين قلت له نعم، ابتسم وقال: "الغرباء هم من يجعلون الحكايات تعيش". أهداني زهرة، واختفى. لا أدري إن كان حلمًا، لكن الزهرة بقيت في حقيبتي.
اليوم السادس
كلما خطوت في أزقتها، شعرت أنني أتعثر بظلال من سبقوني. الرحالة، الشعراء، التجار، الجنود، العشاق، والفقراء. هذه المدينة لا تنسى من مرّ بها. هي لا تحبسهم، لكنها تُبقي أثرهم في الهواء، في الطين، في صدى المؤذن عند المغيب.
اليوم السابع
حين هممت بالمغادرة، شعرت أنني أترك شيئًا خلفي. لا حقيبة، ولا دفتر ملاحظات، بل جزءًا من نفسي.
سمرقند لم تعطني فقط مناظر وأماكن، بل أيقظت شيئًا في داخلي. ربما الحكمة، وربما الحنين، وربما ببساطة: معنى أعمق للسفر.
بقلمي عبدالفتاح الطياري -تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق