الاثنين، 24 مارس 2025

(رحلـة في ذاكـرة الربـاط)

الجـزء الثـالث عشـر من روايتـي 
   *صفـحـة من دفـتر قـديم*

  ✍🏻  فاطمـة لغـبـاري
 
(رحلـة في ذاكـرة الربـاط)

••• مع بـزوغ فجـر الأحـد، استيقـظنـا على سيمفـونية المـطر التي كانت تنقــر النوافـذ برقـة، وكأنهـا تدعـونـا ليـوم جـديد مليء بالفـرص. 
بعـد أن أعـددنـا الفـطور معـا، وتنـاولنـاه، مستمـتعين برفقـة بعضنـا البعض، قـررنـا أن نغـوص في أزقـة المـدينة القـديمة، نستكشف أسـرارهـا المخفـية وتـاريخهـا العـريق.

عـند اقـترابنـا من "بـاب الأحـد"، ذلك الحـارس الصامـت لذاكـرة الربـاط، توقفـنـا لِلحـظة تـأمـل. وكأنني أراه لأول مـرة، متسائلـة عن القصص التي شهـدهـا عـبر العصـور.

– حسـن، هل تساءلـت يومــا عن الحكايات المخـفية وراء هذا البــاب؟

أجـاب وهو يراقـب البـوابة الضخـمة :
– "ربمـا يكون شاهـدا على لحـظات تـاريخـية لا تُعــد ولا تُحـصى."

تـابعـنـا السـير باتجـاه السويقـة، بين محـلات العطـارين، حيث تلتـقي روائح المسـك والعـنبر برائحـة التـاريخ. 
وصلـتْ إلى مسـامعنـا ألحـان شجـية من الحـارات الضيقـة المجـاورة، قـادتنـا إلى عـازف عـود مُسـن، يجلـس على درج حجـري أمـام محـل ضيـق تفـوح منـه رائحـة الـورق القـديم، والحـبر العـتيق على رفـوف الذاكـرة.

التفـتُّ إلى حـسن، وأشـرت إليـه:
– هـذا هو متجـر محـمد العـزيزي، الملقـب بــ"بّـا العـبدي"، بـائـع الكـتب القـديمة.

تـأمـل حـسن الواجـهة المتهـالكـة بدهـشة، وقـال :
– "إنـه يبـدو كمتحـف صغـير لذاكـرة الأدب."

دخـلنـا المتجـر، فاستقـبلنـا "بّـا العـبدي" بابتسامـة دافـئة، وقـال بترحـاب :
– أهـلا بكمـا، كيف يمكنني مساعـدتكما؟
تـأمـلنـا الكـتب من حولنـا، ثم قلـنـا :
– "نـود أن نستكشف تـاريخ هذا المكـان، ونستمـع  إلى قصصك عن الكـتب والـزوار الـذين مـروا من هنـا.

جـلسنـا نستمـع إليـه، وهو يقلـب صفحـات الزمـن، يـروي عن الأجـانب البـاحـثين عن مخطوطات نـادرة، والطـلاب الـذين يشترون الكـتب القـديمة بمـيزانيـات محـدودة، وعشـاق الأدب الـذين يجـدون في القـراءة مـلاذا.
كانت كلمـاتـه تـأخـذنـا في رحلـة عبر العـصور، وكأننـا نعيش تلك اللحـظات مع كل قصـة يـرويهـا.

حـين غـادرنـا المتجـر، كنـا نحمـل كِتـابيـن قـديمـين، وفي قـلوبنـا امتنـان لرجـل أفـنى عمـره بين دفـات الكـتب.

                   — — — — — — — — — —

بعـد عـبورنـا إلى الضفـة الجـنوبية لمصب نهـر أبي رقـراق، تـراءت لنـا "قصبـة الأودايـة"، شامخـة على مرتفـع صخـري، تطل بفخـر على المحـيط الأطلسي، حـاملـة في طيـاتهـا عـبق التـاريخ.
تسللت نسمـات البحـر المـالحـة، وكأنهـا تحكي لنـا قصص القـراصنـة والسـلاطين الـذين مـروا من هـنـا.
سـرنـا في أزقـتهـا الضيقـة المتعـرجـة، بين جـدران البيـوت البيضـاء المـزينـة بلمسـات زرقـاء.
وفي كل زاويـة، كانت عـدسـات السيـاح تلتقـط لحظـات ساحـرة، وعـيونـهم تتـلألأ بدهشـة، كمـن اكتشـف كـنزا مخفـيـا بين ثنـايـا التـاريخ.
تجـاوزنـا سـاحـة صغـيرة تحـيط بهـا فسيفسـاء مغـربيـة أنيقـة، حتى وصلنـا إلى الحـديقـة الأندلسـية، واحــة هـادئة، تزينهـا نوافـير حجـرية يتدفـق منهـا المـاء، كأنهـا تهمـس بأسـرار الأندلسيين الـذين استوطنـوا هـنـا يومــا.
عـبرنـا البـاب السـري المـؤدي إلى مقـهى "موريسكو"، حـيث استقـبلنـا عـبق الشـاي الـذي يمـلأ الأجـواء برائحـة الأندلـس. 
اخـترنـا الجلـوس في الشرفـة المطوّقـة بحـصير تقلـيدي، تطل على صومعـة حسـان المهيبـة وضفـاف مدينـة سـلا، حـيث تلتـقي الأرض بالسمــاء عند خـط الأفـق.
ومشهـد القـوارب القـديمة المطلـية بلـون البحـر الأزرق، بأشرعتهـا البيضـاء تنسـاب فوق ميـاه النهـر المتلألئـة، تنقـل الركـاب بين ضفـتيه.
وفي الأجـواء، تُنـاغِـم أسـراب النـوارس أمـواجَ النهــر وهمسـاتِ الريـاح. ممـا أعـاد إلى ذهـني صـوَر البحـارة الـذين كانـوا يتسامرون هنـا قبل عقـود، يـروُون مغامراتهم في العواصف البعـيدة والمـوانئ الغـريبـة.

أثنـاء تـأملنـا المشهـد، سألـت حسـن وأنـا أنـظر إلى الأفـق البعــيد :
– "مـاذا لو عشنـا هنـا قبل قـرن؟"

أدار الكـوب بين يديـه، وكأنمـا يستعـرض فكـرة في ذهـنه، ثـم أجـاب بابتسـامـة :
– "ربمـا كنت بحـاراً، أعـود كل مسـاء لأروي لكِ حكـايـات البحــر."

ضحكـت وأنـا أغـمس قطعـة "الغـريبـة" في الشـاي السـاخـن، مـداعـبة إيّـاه :
– "وأنـا سأكـون فـتـاة الأندلـس، أنتظـرك عـند الشـرفة، لأسمـع أسـرار المــوج والريـح."

تلاقـت نظراتنـا للحـظة، ثم رفـع كـوبـه، وكأنـه يرفـع نخـبـا خفـيـا وقـال :
– "إذن، لنحـتفل بهـذا اللقــاء الجـديد مع التـاريخ."

في تلك اللحـظة، بـدا وكأن الزمـن توقـف بيننـا، فاقـترح عليّ بابتسـامـة مـرحـة :
"مـاذا عن جـولـة في لعــبة الرامـي؟ ستكون ختـامـا ممتعـا لهذه الجلـسة."
 
بـدأنـا بتوزيـع البطـاقـات، وأيدينـا تتعـثر بين الأوراق، وكل مـنـا يسـرّ في نفـسـه بالفــوز. 

– قـال بنـظرة سـاخـرة : 
   "لِنـرَ من سيحسمـها هذه المـرة !"

– تحـدّيته، وأنـا أرفــع حـاجبـي : "استعــد للخـسارة"

 كلمـا اقـتربتُ من الفــوز، كان يبتكـر حـيلـة جـديدة ليقلـب مجـريـات اللعــبة.

تواصلت لعـبتنـا، ومع كل رمـية، كانت ضحكـاتنـا تتعـالى، لـم نلـقِ بـالاً لبعض الجـالسـين حـولنـا، المتجمعـين بفضـول لمشاهدتنـا، واستمـررنـا غير آبهـين بهم. 

ومع آخـر رشفـة من الشـاي، انتهـت اللعـبة بفـوز حسـن، لكـنه فــوز لـم يخـلُ من التحـدي والمنـافسـة.   

مـازحـته قائلـة :
"يبـدو أنني سأحـتاج إلى تدريـب إضـافي لأهـزمك في المـرة القـادمـة."

أجـابني مبتسمـا وهو يربّـت على يـدي :
"أنـتِ دائمـا منـافسـة شرسـة، وهـذا مـا يجعـل اللعـبة ممتعـة."

                   — — — — — — — — — —

بينمـا كنـا على وشـك المغـادرة، جـذب انتبـاهنـا معـرض صغـير في زاويـة الشـارع، كأنـه كـنز مخـفي بين طيـات الزمــن. 
دخـلنـا لنجـد أنفـسنـا أمـام أعمـال الفـنـان "يوسـف الكرتيلي"، فاستقـبلنـا بابتسـامـة دافـئة :

– "أهـلا وسهـلا بكمـا في عـالمـي."

أخـذنـا نتجـول في المعـرض، توقـف 'حسـن' أمــام لوحــة تُجـسّد البحــر بألـوانـه الزرقـاء المتدرجـة، تـأملهـا بصمـت، ثـم التفـت نحـوي مبتسمـا، وسـألني :

– "أتعلمـين يـا فـاطمـة، مـا الـذي يشبـه هـذا البحــر؟!

– ابتسمـت وغـاصت نظـراتي في عـينـيه، ثم أجـبته قـائلـة :
"أراه يشبـهك تمـامـا؛ واسـع وعمـيق، ومـزاجـه متقلـب. يخـيفني بجمـوحـه، ويغـريني بسكـونـه"

ضحـك بحـرارة، وعينـاه تلمعـان، وقـال: 
– "وأنـا أراك كشمـس دافـئة ومشرقـة، تمنحـين الحـيـاة لكل شـيء تلمسـينه. وعـندمـا تغـيبيـن، يفتقـد الكـون دفء حضورك."

تبـادلنـا النـظرات، وشعـرنـا بأن الكلمـات نسجـت بيننـا رابطـا أعمـق، تمـامـا كالبحـر والشمـس في لوحــة واحـدة.  

توجـهتُ نحـو لوحــة أخـرى، تمـثّل امـرأة تحـمل بيـن يديهـا طائـرا أبيـض، فسـألتُ يوسـف :

– مـا قصـة هذه اللوحــة؟

ابتسـم قـائلا :
 "هذه تمـثل حـريتي الفـنيـة."

– "وكيف أن الفـن يحـرر الـروح ويجعـلهـا تحلـق بألـوانهـا الخـاصة.؟"

أجـابنـي مبتسمـا :
 "الفـن هو رحـلة استكشـاف بين الـذات والعـالم، يحـرر الـروح ويمنحـهـا أجنحـة للتحلـيق في فضـاءات الإبـداع والجمـال."   

واصلنـا التجـول بيـن اللوحـات، وكل واحـدة تـأخـذنـا في رحلـة مختلفـة.

في ركـن المعـرض، جـذبتني لوحــة كبيـرة تمـثّل قصبـة الأودايـة، أشـرت إليهـا قـائلـة :

 "هذه اللوحـة تشـبه تمـامـا أزقـة القصبـة التي مـررنـا بهـا اليـوم."

أومـأ يوسـف برأسـه قـائلا :
 "نعـم، أردت أن أخلـد جمـال القصبـة وتـاريخهـا في لوحـاتي."

أنهـينـا جـولـتنـا الممتعـة في المعـرض، فعـبّرنـا عن امتنـاننـا لـه على استضافتـه. شعـرنـا أن يومـنـا اكتسـب بُعــدا ثقـافيـا إضافيـا، ممـا جعـلنـا نـرى المـدينة القـديمـة وأهلهـا من منـظور جـديد.

                   — — — — — — — — — —    

مع حـلول المسـاء، 
توجـهنـا إلى مقـهى "Jour et Nuit" الشهـير في حـي حسّـان.
جـلسنـا بجـوار النـافـذة، حـيث تنـاثرت أضـواء المـدينـة على الزجـاج، ممـا أضفـى لمسـة سحـرية على الأجـواء.
تذوقـنـا أطبـاقـا مشـوية مصحـوبة بالشـاي المغـربي التقلـيدي، تحـت وهـج المصابيح الخـافـتة، وتلاشـت الضوضـاء من حـولنـا، ولم يبـق سـوى سكـون اللحـظة. تهـادت كلمـاتي برفـق :

"هذا المسـاء ليس مجـرد لحـظة عـابـرة، بـل هـو  امتـداد لذاك اليـوم الـذي لم يبـارح ذاكـرتنـا."

تألقـت عينـاه بفضـول، وارتسمـت على شفـتيه ابتسـامة توحـي بسـؤال:
– "وكـيف نخـتم الصفـحـة؟"

بهـدوء لامسـتُ كفــه بكـفي، كمـن يوثـق وعــدا غـير مكتـوب وهمـستُ:
– "بخـاتمـة مفـتوحـة ..." 

بينمـا كنـا نصغـي لصمتنـا، انبعـث من مكـبر الصـوت، أنغــام أغـنية حـب تنبـض بروح المـدينة العـتيقة.

التفـتَ إلي حسـن قـائلا :
 "كأن هذه الأغـنية انبثقـت من زمـن بعــيد، لترافقـنـا هذه الليـلة."

أجـبتـه بابتسـامـة :
"بعض الألحـان تبـقى خـالدة، فهي تحـتفظ في نغمـاتهـا بِلحـظات عشنـاهـا، وأخـرى نـأمـل أن نعـيشهـا."

زفـر بصمـت وعينـاه على النـافـذة، ثم قـال :
– "مـا رأيكِ أن نواصـل السـير قلـيلا؟ 
لا أريـد لهذا المسـاء أن ينتـهي..."

أجـبته بنـظرة يملـؤهـا الشغـف :
 "لِنمـنح الليـل حـرية اختيـار وقـت إسـدال سـتـار الحكـاية."

غـادرنـا المقـهى، ومـع كل خـطوة، كان النسـيم ينسـاب على وجـوهنـا بلـطف، وكأن المـدينـة توشوش لنـا:
"لا تستعجـلوا ... 
فبعض الليـالي ينبغـي أن تُعــاش ببـطء."

إلى صفـحـة قـادمـة ... 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ارسم هوايا ومهجتي .. بقلم أ. لمياء العلي ...

ارسم هوايا ومهجتي  كحلم على ورق الشجر نداه يطبب دمعتي وتاج وضعته كالبدر يضيء ظلامي بالدروب ونقش عشقه في الصدر وألف آه على دمعتي لما أفيق على...