بين النور و الظلام 2
الفصل الثالث: بين المطرقة والسقف المنخفض
بلغ حسن السادسة عشرة، وبدأ يحمل الورشة على كتفيه بعدما مرض خاله. لم يكن يحب النجارة، لكنه كان يُتقنها. يقال إن الفقر يُعلّمك الحرفة دون أن يسألك إن كنت تحبها.
كانت الورشة مكانًا ضيقًا، سقفها منخفض مثل أحلامه. الزبائن قلائل، والآلات قديمة. لكنه كان صبورًا، يعمل بصمت، يضحك في وجه من يسخرون منه، ويختبئ كل مساء في فراشه يفكر:
هل هذه هي الحياة كلها؟ خشب وغبار وصمت؟
في أحد الأيام دخل رجل أنيق إلى الورشة. طلب تصميمًا معقدًا لطاولة. أعجب بعمل حسن، وعرض عليه أن يعمل في محل أثاث فخم في وسط المدينة.
كانت المرة الأولى التي يرى فيها حسن مكتبة فيها كتب، وصورًا على الجدران، وآلات حديثة تقطع الخشب دون عرق أو دموع. بدأ يشعر بأن للحياة وجهًا آخر غير التراب والحطب.
الفصل الرابع: النور لا يسطع دفعة واحدة
بدأ حسن يحس بتغير حقيقي. انتقل إلى سكن صغير قرب العمل، واشترى أول كتاب له من بائع متجول: "البؤساء" لفيكتور هوغو. كان يقرأه كل ليلة وكأنه يقرأ عن نفسه.
أصبح يتقن تصميم الأثاث الفاخر، تعلم كيف يتحدث مع الزبائن، كيف يرتدي قميصًا مكويًا، وكيف يبتسم بثقة. لكنه في داخله، ظل يشعر بأنه دخيل. في الاجتماعات كان يصمت كثيرًا، يخشى أن تخونه كلماته الفقيرة.
أدرك شيئًا مهمًا: أنه لن يهرب من الظلام إذا لم يواجهه.
الفصل الخامس: المصباح الداخلي
مرت سنوات، وحسن أصبح شريكًا في محل الأثاث. لم يعد ذلك الفتى الذي يحني ظهره في الورشة الصغيرة، بل صار صانع قرار، رجلًا يحترمه من حوله، حتى وإن لم يعرفوا شيئًا عن ماضيه.
في أحد المعارض، التقى بامرأة كانت صحفية، ذكية وهادئة، شدّها في حديثه شيء مختلف. لم يكن متفاخرًا، بل كان صادقًا، عميقًا، وكأنه عاش ألف حياة. سألته عن بداياته، فأخبرها دون مبالغة، بل بصدق حزين.
كتبت عنه مقالًا بعنوان: "رجل نجح رغم الظلال". انتشر المقال، وتلقى اتصالات من مؤسسات تعرض عليه أن يلقي محاضرات للشباب عن الصبر والعمل والنجاة.
في أول محاضرة له، وقف أمام العشرات، يده ترتجف قليلًا. قال بصوته الهادئ: "لم أولد في النور، ولم أسعَ للثراء. كنت فقط أبحث عن معنى، عن شيء يمسك يدي عندما أتعثر. ظننت أن النور مكان نصل إليه، لكنني فهمت متأخرًا أنه شيء نخلقه... في داخلنا."
صفق الحضور طويلاً. لكنه لم يهتم بالتصفيق. ما كان يهمه أن أحدهم، ربما شاب في زاوية القاعة، شعر أن بإمكانه أن ينهض، رغم كل شيء.
حسن لم يصبح مشهورًا، ولا ثريًا جدًّا، لكنه صار شيئًا أعظم: رجلًا عاش بين النور والظلام، واختار أن يكون ضوءًا صغيرًا في حياة غيره.
بقلمي عبدالفتاح الطياري -تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق