صيحة عاملة
كانت "نور" في السادسة من عمرها عندما توفي أبوها، ودفن في مقبرة القرية تحت شجرة التوت شجرة يتداول السكان قصتها من زمان بأنها تغذي أجسام الأموات.
قرر أخوها حرمانها من التعليم لتسهر على سلامة أمها وتربية أبنائه. موافقة أمها أشعل ورمها! "هل لها حل آخر بعد موت أبي، قالت. وصار أخي الكبير هو عائل الجميع، فمن ينقصه المال تنقصه الجرأة ويصبح خادم سيده."
حياتها عبارة عن خادمة، من المطبخ إلا غسل الثياب والأصحن وتنظيف المنزل واللعب مع أبناء زوج أخيها الشرطية. لم تر من الدنيا سوى الشتم والذل من طرف الكل حتى من أمها.
كان عمرها عشرين عاما عندما وجدت والدتها فاقدة للوعي على سجادة الصلاة في بيتها المعزول فوق سطح المنزل. عندما أدركت أنها لن تستيقظ، تقسم على نفسها أن هذه المرة ستهجر المنزل... -و بالفعل- اتجهت نحو كانال الماء الحكومي مقررة الانتحار. وفي طريقها إلى مثواها، أنبها ضميرها وعدلت عن فعلتها ولكنها واصلت طريقها دون رجعة.
ترددت أصوات العامة، بأنهم شاهدوها متجهة مهرولة نحو الكانال. اعلموا البوليس والحماية المدنية وفتشوا عنها في كل الأماكن فلم يجدوا لها أثر.
الآن، وحدها، سوف تثور ضد القانون والأخلاق وتقرر إخفاء وفاتها عن الجميع لتعيش فريدة. لديها أيام معدودات لتقرر مصيرها. أيام لتكبر وتصبح قادرة على تجسيد معنى تحررها.
بعد أيام من التسكع في الجبل والنوم على عويل الذئاب في المغاور وأكل ما جادت لها الطبيعة من ثمار وأعشاب... وعند غروب الشمس غسلت ثيابها وتحمٌمت في غدير مخفيا بأشجار الذرو... وفي الصباح الباكر، أخذت زادها بمعنى لا شيء إلا ما يحمله جسمها واتجهت إلى العاصمة... غيرت اسمها وأصبحت "آمال" لكل من ستتعرف عليه.
أربعون كلم مشيا على الساقين في الطرقات الوعرة والغير آمنة. تجوب التلال والحقول مرددة على مسامع الطيور الطليقة والصدى يعاود بعدها: أنا سموني نور... وها أنا دون نور وابحث عن النور.
وبعد ثلاثة أيام وقفت أمام تونس... وكأنها عليسة القرطاجنية في زمانها. ماذا سأفعل وأنا لا أعرف أقرأ ولا أكتب.
اتجهت نحو منزل بعيدا عن الخلق أين تسكن عجوز. طلبت جرعة ماء وقطعة خبز. تفطنت السيدة إلى حالتها واستفسرتها عن قصتها...
يتبع
بقلمي عبدالفتاح الطياري
تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق