الأحد، 2 نوفمبر 2025

"أنا يا أنا"

"أنا يا أنا"
قصيدة للشاعر والمهندس طاهر عرابي

دريسدن – كُتبت في 07.08.2017 | نُقّحت في 02.11.2025

أبدأ هذه الرحلة في مواجهة الذات،

أسائل الظلال والضوء عن المعنى في عالم يزداد ضياعًا.

فـ”أنا” ليست مجرد ضمير متكلم، بل كائن يشتبك مع وحدته، يحاور قدره ومجتمعه،

يبحث عن الحب والحق، ويصارع هزائمه الصغيرة والكبيرة.

رحلةٌ تمضي بين أروقة الحيرة والحنين، حيث تصطدم الروح بالجسد، وتتشابك الأسئلة بالصمت،

وتظل الأنا تتلمّس طريقها بلا نهاية،

لا تهدأ… ولا تتوقف.

1

صباحُ الخيرِ يا أنا،

أبحثُ في الطرقات عن نفسي،

فتُجيبُ: “أنا هنا، خلفك.”

تمضي كأنك ساقاي،

والطرقات تنهرك بالحصى،

وغبارك شكوى الأرض،

تلتف كخريطة لم يرسمها سوى الصبر.

أقول لها: “رافِقيني، يا أنا، فالروح تمضي لغايتها،

وأنا أخاف على ضياع الجسد.”

فتُجيب:

“أنت ما زلت وحدك،

أتريد هذا الكون كله لتكون في كل شيء؟

تلفت حولك،

فالروح تسبق الزمان إلى خلايا الجسد،

وتمنحك سرًّا لا يكشفه الزمن في الحزن.

فابتهج… لتتذكّر.”

خجِلت… وتصبَّب مني العرق،

كنت أظن أنني وردة زنبق

في بركة تقرأ القصائد ومديح الغايات،

لكنني أقف الآن في غابة مات فيها الورد،

وصار جذرها عشًّا للنمل.

حتى الروح تخشى أن تُخاطب الجسد،

وأنا بعيد عن كهوف الوفاء

ومرتفعات الحب في السماء.

لا شيء ينذر بالعطاء،

احتضنت كومة من الهواء،

ولم أغادر… بل غادر الخوف إلى الفناء،

كمن يودّع نفسه وينهي “أنا”.

2

تعالي، يا مواكب الحب،

سأدعو كل الكلمات التي تعلمتها،

حين عقدوا الأعراس وشربوا قهوة الصباح،

عسى أن تسمع…

كنت وحدي في الخطوات،

حين قتل الطريق إليك،

وتوقفت الساعات.

الكل هارب ويديه للخلف،

بريء من أنفاسه… كأن الكون كله كهف.

ما كان لي رصيف أرى عليه الأشياء،

لكن لو ابتلع البحر الطرقات،

كنت نوحًا… أبحر بزورق من كلمات.

سأنفق جهدي لأكون،

فهذا ما تعلمته،

كي لا يسبقني أحد،

حتى لو انفتق الجرح القديم وسال ماء الحياة.

من يرطب الورد إلا ذاك الندى،

القادم إليها بلا وعود… بلا سحاب.

3

أيتها المحبة،

سمِّيني عاشقًا

يبني بيت الأخلاق من ذاته وروحه،

ويقف حارسًا حتى يلتئم اللئيم مع العفيف،

ويتزوج العصفور في عشّه الأزرق،

تحت أغصانٍ عاصرتها عواصف الريح.

بكت الأخلاق على وقاحة العبر،

وتذكرت تشظي صورتي في المرايا،

وأكابر كي لا أنسى أنني ما زلت أتوق

لمعرفة زمن زوال الكراهية.

نهرتني الأخلاق: أي خُلُقٍ تركض به؟

وبلادك التي يعيث فيها الغريب؟

هزمتك كل الهزائم،

يخجل منك الفرح،

حتى لو أعددت له الولائم…

فكّر قبل أن تفرح،

وبأي أجنحة تطير الابتسامة،

إذا كان الجسد مقيدًا بألف علامة.

4

ومشيت… كأني مولود في عش الحمائم،

لكن الأيام ستقتلني.

فاخرج من الظلام!

اهزم عدوك بروح القدرة على الحفاظ على الحب،

فله منبع…

ونهره يطوف كما الضوء في المصباح.

كم ظننت أنني أوزع الحب في كل مكان،

لكن هَباب الفحم أثقل من الخجل!

وما زلت أحلم أن أكون في شيء… أقوى من بطل!

ووقفت أودّع كل ما أكره،

فوجِدت الضياعَ يستعصي.

5

أمي ماتت… وأبي مات،

ولم يرجعا إلى فلسطين.

كانا أشد حزنًا من نار جهنم،

وكان الحزن يخشاهما.

توغّلوا فيه، حتى رأيت السواد

يدخل من شقوق الجدران.

قالوا: هل يلد الإنسان لكي يُهان؟

أوصوني بأن أتعلم أجمل الكلمات،

لأنني مشرَّد، مكسور الخاطر، مقهور.

أنتظر وأتفرج…

كيف ينتظر المنتظر،

إن كان له موعد مع الانتظار؟

وفي الانتظار،

يتحوّل الحمار إلى حمامة

تصلي على أسلاك الوقت،

هديلها لوعٌ ووقوفٌ صامت.

لو كان للكآبة باب، لما دخلته حتى النملة.

6

أتسلّى مع نفسي،

وأقول “أنا”،

وفي الصباح، ألوّح للأفق،

فأرى ألف زورق كموج البحر،

يتراقصون،

ويلتفّون على خاصرتي حتى العُنق.

أرى نفسي مثل قشّة تغرق.

ألا تعزّيني، أيها الحب؟

كنت أظن أنني لست أنا،

ولم أتعلم سوى قول الحق…

كثرت الحقوق حتى ضاعت،

ونحن نُولد دومًا عند كل مفترق.

يا أنا، خذي مني الخطوة الأولى،

فقد تعبت حتى صارت الأقدام مرجع الطريق.

سأنام عند قبر أمي وأبي… ثم أرحل،

كفراشةٍ حنطية ترى عشها في الزيتونة،

في قريةٍ غفّت على ثوب أمي… وأنبتت زعترًا،

قدره مثل قدري، والفرق أني في غربتي

أصارع جموح الشوق.

طاهر عرابي – دريسدن


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق