السبت، 31 مايو 2025

في رحاب القضاء

في رحاب القضاء
 
بقلم الدكتور عوض أحمد العلقمي

   لعل في مصطلح القضاء أمورا عظيمة تتجلى في خيال المؤمن ؛ إذ يظن من أول وهلة يسمع فيها نطق تلك المفردة العربية العظيمة ، أو يقرأها على لافتة تعتلي دارا من دور القضاء ، أو في كتاب ما ، أو في دورية أن هذه المفردة تعني قضاء حوائج الناس بالعدل ومن دون تأخير ، وتحل مظلومياتهم بانتزاع المظلمة من الظالم ، وإعادة الحق بإنصاف المظلوم ، فضلا عن الصدع بكلمة الحق في وجه السلطان الجائر ، وغير ذلك من الأمور التي يعمد إليها خيالك ؛ كالانتصار للمستضعفين ، وردع الطغاة والجبابرة والمتكبرين .
   ومع أنني لست ممن يهوون المشارعة ، وارتياد المحاكم ؛ إذ تبنيت منهجا خاصا بشخصي ، فعندما أختلف مع شخص ما في أي قضية أكون متيقنا من أن الحق لخصمي فإنني أتنازل له بذلك الحق ، وأعود إلى منزلي مرتاح البال ، وإذا كان الحق لي يقينا ، فعند ذلك أطلب من خصمي أن يقبل مني يمينا بالله بأن ذلك الحق لي ، وإذا رفض قبول اليمين مني ، أعيد اليمين له ، وإذا ما أقسم بأن ذلك الأمر له فإنني أحتسب ذلك عند الله ، ثم أنصرف مرتاح البال .
   لكنني قبل أسبوع وجدت نفسي مضطرا للذهاب إلى إحدى محاكم التوثيق ؛ لعمل وكالة لشخص ما ؛ لمتابعة أمر ما ، في هذه الأثناء وجدت أمام المحكمة بضعة أشخاص مسنين ، حالهم تشكو قسوة الدهر والإنسان ، أظن أنهم قد لحقوا شيئا من زمن الاحتلال البريطاني لحاضرة بحر العرب ، أمام كل واحد منهم مطبعة عتيقة على منضدة متهالكة ، يحكيان حال ذلك الشيخ الطابع ، طلبت من أحدهم أن يطبع لي وكالة ، فاستجاب مرحبا بالأمر ، وأنا أنظر إلى أنامله وآلته الطابعة ، وإذا به يطبع من الكلمة حرفا أو حرفين ، ثم يتوقف لرفع شريط الحبر الأسود إلى الأعلى ، لكي تضرب عليه حروف الآلة الطابعة ، استمر على ذلك الحال في كل كلمة حتى مللت الوقوف وتملكني الصداع من شدة الحرارة وقسوة الشمس . 
   ولجت من السور إلى حديقة تشكو أشجارها من ثقل الأتربة التي استطابت الإقامة على سوقها وأوراقها ، ومن الأكياس البلاستيكية التي التحفت بها مكرهة ، فضلا عن قنينات المياه الفارغة ، وعلب العصائر التي تنغص حياتها ، انتهيت من الحديقة إلى صالة يملأها المراجعون ، ومن ينتظرون وكالاتهم ، بها الشيء القليل من الكراسي المتهالكة ، نتركها للعجائز والشيوخ الذين لايستطيعون الوقوف ، تعبت من الوقوف ، والحرارة تكاد تقتلني ، نظرت خلسة إلى كل زوايا تلك الصالة اللعينة لعلي أعثر على مكان أجلس فيه ، لكن دون جدوى إلا من حلبة صغيرة في إحدى الزوايا تشبه حلبات المصارعة ، تسللت نحوها ، وإذا بها تشكو من بضع مئات من قنينات المياه الفارغة ، يبدو أن هناك من جمعها من الحراس أو المراسلين لبيعها . 
   أمضيت على ذلك الحال ثلاثة أيام ، أنتظر تختيم الوكالة ، إذ أبلغونا أن القضاة لايحضرون إلا قاضية واحدة ، وعددنا كبير .
   فإذا كان هذا وهو الشيء اليسير من حال القضاء ، فكيف سيكون حال المتقاضين ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ارسم هوايا ومهجتي .. بقلم أ. لمياء العلي ...

ارسم هوايا ومهجتي  كحلم على ورق الشجر نداه يطبب دمعتي وتاج وضعته كالبدر يضيء ظلامي بالدروب ونقش عشقه في الصدر وألف آه على دمعتي لما أفيق على...