الوصول الى مراكش
السابعة صباحا، 27 جويليه 2002... مراكش
أجلس في مقهى صغير يطل على سوق التوابل بحي الملاح المعروف سابقا باسم حي السلام، هو الحي اليهودي في مدينة مراكش المغربية. كان مكان خاو ومهجور حوله شابا طموحا إلى فضاء للسياح. كنت أحتاج إلى الهروب من صخب مرسيليا بعد الأسبوع الثقافي المخصص لابن رشد. قصدت المغرب دون أن أعلم أحد وبعد حج روحي لفاس، فضلت لقاء ابن رشد في هدوء في مكان وفاته، مراكش. كان الجو لطيفا يمكنني الحياة أسابيع كاملة من دون سيارة. اعتزلت القراءة والكتابة... جلوسي في المقهى كان تأملا وصمتا وبعد أسبوع من النوم والأكل والشرب توجهت إلى ساحة جامع الفناء وتصفحت عدة كتب ملقاة على الأرض عن الدين والخرافة والشعوذة والحب وصدفة باغتني كتاب بلا عنوان قديم جدا مخطوط باليد يروي قصة سبينوزا والإسلام. اشتريته وعدت فرحا وكأن باب العرش فتح بين عيني. أرى بدوية آتية عبر الساحة بشعرها الأسود المرسل على كتفيها وطلبت مني أن أرافقها إلى مكان كنت أجهله حتى تلك اللحظة... دخلت سقيفة داكنة وأخذت كفي وبدأت تقرأ بلغة لم أفهمها... وكأنها لغة بربرية أو عبرية وفي الأخير قالت لي... لا يوجد هنا أثر لابن رشد وإذا أردت زيارة قبره فعليك بقرطبة... وانصرفت
عدت الى المقهى المعتاد و فتحت الكتاب و أنا اواظب على القراءة لفترة ثم اتوقف...فتحت شهيتي وفقدت الاكتئاب... كان اللقاء رؤية كشفت موهبة كنت افتقر إليها ، ما يجمع ابن رشد و سبينوزا ؟
بالطبع، اتفلسف في بلاد العرب و هذا في بعض الأحيان خطر.. اتقلب على كرسيي ، يغمرني الحلم... يأتي صوت من أعماقي يحرمني من التأمل...اختبي من نفسي و من مشاعري ، أظل سائها بعض اللحظات ثم القي بجوابي: لماذا لا أصنع لقاء خيالي بين ابن رشد وسبينوزا، بين التأويل والجوهر: حوار العقل بين ابن رشد وسبينوزا بصيغة تأملية تأخذ طابع المقال الفلسفي...
في عالم تتعالى فيه الأسئلة فوق الجغرافيا، وتذوب الأزمنة أمام الفكر، التقى اثنان من رموز الفلسفة: ابن رشد، الذي جسّد أمل الفلسفة في الإسلام، وباروخ سبينوزا، الذي أعاد تشكيل معنى الإله في العصر الحديث.
كلاهما عاش منفياً في وطنه: ابن رشد نُفي من قرطبة حين علت أصوات النقل فوق العقل، وسبينوزا طُرد من طائفته حين تمسك بحرية التفكير في زمن الجمود. لكن المنفى كان بوابة للخلود، والعزلة رحمًا للفلسفة.
في الله، اختلفا، لكن لم يتناقضا.
ابن رشد رأى أن الإله متعالٍ عن الزمان والمكان، لكنه أعطى الإنسان عقلًا لفهم أفعاله، لا لتقديس الجهل. قال: "إذا تعارض النص مع العقل، وجب تأويل النص." كان التأويل عنده ليس تمردًا على الدين، بل إنقاذًا له من حرفية تُميت روحه.
أما سبينوزا، فذهب إلى الجذر: "الله ليس كائنًا خارج العالم، بل هو العالم في جوهره." رفض الفصل بين الخالق والمخلوق، ووجد الإله في قوانين الطبيعة، في اتساق الوجود، في حتمية السببية. "الله لا يريد، الله لا يغضب، الله لا يثيب ولا يعاقب؛ الله هو الجوهر، والعقل سبيلنا الوحيد لفهمه."
في النصوص، سلكا طريقين متقاربين.
ابن رشد، كفقيه عقلاني، دافع عن حق الفلاسفة في التأويل، واعتبر أن الفهم العقلي لا يناقض الوحي الصحيح. أما سبينوزا، فقد ذهب أبعد، مفككًا قداسة النص، ورافضًا السلطة اللاهوتية. اعتبر الكتب المقدسة نصوصًا بشرية، خاضعة للتاريخ واللغة والمصالح، لكنها تحمل بذور الحكمة لمن يقرأها بعين العقل.
في الحرية، كانا توأمين.
ابن رشد رأى أن الجبر يقتل الأخلاق، وأن الإنسان حرٌ ضمن حدود معرفته ومسؤوليته. سبينوزا آمن أن الحرية الحقيقية لا تأتي من الانفلات، بل من فهم الضرورة. "الحرية هي الفهم"، كتب، "وكلما زاد فهمنا، قلّ خوفنا، وزادت قدرتنا على الاختيار."
وفي النهاية، التقيا عند سؤال الإنسان: كيف نحيا؟
كلاهما رأى أن خلاص الإنسان لا يكون في الطقوس، ولا في الخضوع للسلطة، بل في سعيه لفهم العالم، ومكانه فيه. كلاهما كان يعلم أن العقل وحده لا يكفي، لكن من دونه، يُظلم الوجود.
ابن رشد وسبينوزا لم يلتقيا في التاريخ، لكنهما التقيا في جوهر الفكر. الأول أعاد للدين عقله، والثاني أعاد للكون قداسته. بين تأويل ابن رشد وتجريد سبينوزا، يتمدد العقل العربي والغربي في صمت، باحثًا عن طريق يجمع بين الروح والحرية.
بقلمي عبدالفتاح الطياري -تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق