الاثنين، 26 مايو 2025

الجـزء الثـاني والعشـرون من روايـة «صفـحـة من دفـتر قـديم»✍🏻 فـاطمـة لغبـاري(حين بلغـني النـداء)

الجـزء الثـاني والعشـرون من روايـة «صفـحـة من دفـتر قـديم»

✍🏻 فـاطمـة لغبـاري

(حين بلغـني النـداء)

كان صبـاحـا نـديّـا من نسـغ الذاكـرة، لا يشـبه رتـابـة الصبـاحـات التي خـلت...
انبثـق من ربـوع "تـرݣـا انجـاعف"، عـلى أنفــاس الفـجـر الأولـى، محمـولا بنسـائـم بـاردة تغـلّفـهـا نفـحـات الخـزامى البـرّيـة.
وفيمـا كـنت أتنفـس دفء اللحـظة، دوّى صيـاح ديـك حـادّ، كأنـه يعلـن عن انبـلاج فصـل جـديد. 
تمهّـلت في النهـوض، أزحـت الستـارة عن نـافـذة خشـبية صغـيرة تطـل على الجـبـال البعـيدة؛ كان الضبـاب ينسـاب بين تعـاريج شجـر الأرݣـان، تكـتنفـه هـالـة من سكون رحـيب.
هنـاك، في عمـق الوهـاد، كانت الحـيـاة تستعـيد إيقـاعهـا البـدئي : 
وقـع حـوافـر المـاعـز يرتـدّ بين الصخـور، وصدى النسـوة وهن يتهـادين نحـو العـين، يحملـن الجـرار على الرؤوس، ويرتّلـن أهـازيج صبـاحـية كأنهـن يُحـيِين بـزوغ النهــار.

 عند موقـد الحـطب، كانـت "لالّـة تيضّـا" تجـثو القـرفصـاء، تلـفّ جـسدهـا النحـيل بوشـاح صوفـي ثقـيل، تقـلّب "رغـيف تْفَـارنوت" (خـبز التنـور) على مهـل، وتهمـس بـأنشـودة أمـازيغـية قـديمـة تَشـي بسـرِّ الزمـن الغـابـر.
إلى جـانبـهـا، كانت دلّـة شـاي نحـاسـية عـتيقـة تفـور على الجـمـر، ينهـلّ منهـا بخـار عـطر يعـانق ملامحهـا الوادعـة.
وفي الزاويـة المقـابلـة من البـاحـة، انهمـكت زوجـات أبنـائهـا في طحـن حـبّـات الأرݣـان تحـت الرحـى الحجـرية، يُهيّئـن "أملـو"، وأصواتهـن تعـلو بـأهـزوجـة أمـازيغـية تعـبق بـروح الأرض :
  
      «... أنـزا يـا ريـح ن تسكّـا تّسـواس 
            آس أرݣـان إيكـني نتغـرا
          إيـوي تفـلاّحـت ن جـدودِّنّْـغ ...»

          (يـا ريـح الصبـاح احمـلي أصواتنـا
               يـا أرݣـان أنت كنـز القـريـة 
                  أنـت بركـة جـدودنـا...)
 
مـا زلـت أذكـر كيف لامسـت نغـمـات أرݣـان مسـامـعي، فاقـتربـت بخـفّـة نحـو "لالّـة تيضّـا"، وجـلسـتُ إلى جـانبهـا على حصيـر منسـوج بسعـف النخـل، تفـوح منـه رائحـة الذكـريـات. 
همسـتُ بلكـنـة متلعـثمة :

«تيفـاويـن لالّـة تيضّـا، مَنـزَكْمـين؟» 
(صبـاح الخـير لالّـة تيضّـا، هل أنت بخـير)

رفعـت رأسهـا بابتسـامـة دافـئة :

«تيفـاويـن إلِّـي، نْحْمْـداس إِ ربّـي نْشْكْـراس ... 
إس تْݣْـنَت مَـزيـان؟»

(صبـاح الخـير يـا ابنتـي، الحـمـد والشكـر للّٰـه ...
  وهل نمـتِ جـيدا؟) 

مـدّت لي رغـيف تْفَـارنـوت سـاخـنـا مدهـونـا بـالعـسل الجـبلي. 
تقـاسمـنـا الإفـطار على مهـل :
زيـت أرݣـان معـتّق، جـبن مـاعـز طـري، زيتـون داكـن خُـزّن في جـرار الطيـن، وتمــور من نخـيل الـوادي.
كل شـيء كـان يوحـي بـالبسـاطـة ...

نظـرتُ إليهـا، وسـألتهـا :

«مَتْشـوريلاّن أَيْعِيش غـو دُوّارا؟»
 (من تبقّـى هنـا يسكـن الدّوار؟)

أجـالـت بعـينـيهـا نحـو الأفـق، كـأنهـا تنبـش ذاكـرة المكـان :

«نَكْـني أورانفّْـغْ غـواكال نّْـغْ أشْكو غيداغ نعيش نحـبّو تمَـازيرت نّْـغْ»

(نحـن لا نستطيـع تـرك الأرض، نحـبّ منطقـتنـا)

وفي غفلـة من الزمـن، بـاغـتنـا صوت من خلـف السيـاج.

«صبـاح الخـير لالّـة فـاطمـة.»

كان "أمـنـاي" قـد عـاد من الحـقـل، يتـأبّـط سلّـة أعشـاب بـريـة، يلـوّح بهـا، ثـم همـس ضاحكـا :

– «اليـوم غـادي ندّيـوك فجـولـة لْجـبل، تْبْغـي تْجـي معـنـا؟»

لـم أُجـب على الفــور، اكتفـيت بـابتسـامـة وادعـة، وشـددت المنـديل على رأسـي كمـا تفعـل فتيـات الـدوار حـين يتـأهّـبن لاعـتلاء السفـح، ثـم همـست :

– "بَلغَـني النـداء"
كأن في الجـبل وعـدا ينتظـرني.

سـرنـا نحـن الثـلاثـة كأننـا ظـل واحـد؛ الشـيخ "أمغـنـاس" المهـيب، يتـوكـأ على عصـاه كمـا لـو كـان يسنـد بهـا ذاكـرة الجـبل، و"أمـنـاي" بخفـته المعـهودة يقـودنـا، أمـا أنـا، فكنت أقتـفي آثـارهمـا بِتـأنٍّ.

واصلنـا السـير عـبر المـروج التي تعـبق بعـطر البـراري، حتى بلغـنـا شجـرة خـروب معـمّـرة، جـذورهـا متغلـغلـة في التـربـة كأنهـا ذاكـرة لا تشـيخ.
احتمـينـا بظلهـا الوارف، وأخـرج "أمـنـاي" من سلّـته بـاقـة أزهـار صفـراء، نثـرهـا على قمـاش قـديم، وشـرع يفـرزهـا بـرويّـة، قـائلا :

– «هـادي "تكـيدّا"، كنغـلّيوهـا وتنشـربوهـا، كتـرخـي الأعصـاب وكـدّاوي وجـع الـراس .. أحـسن من الـدوا بـلا فـايـدة.»

كان صمـتي مـأهـولا بحـركـاتـه، غـير أن شـيئـا خفـيـا كان يتشكل في داخـلي، كـأن المكـان يعــيد صـوغ انكساراتي في هيئـة بعــث جـديد.
رفعـت بصـري نحـوه، فوجـدت نظـراتـه تتـابعـني بـدهشـة صـامـتة :

"عجـبْك الجـبل؟ هـادي غـير البـدايـة ... المجـرى تحـت الصفـصافـة العـالـية كيتسنّـاك."

اجـتـاحـتني رعـشة مبـاغـتة، وانسلّـت خطـواتي نحـو السفـح الـمنحـدر بـلا وعـي مـني. 
شـلالات رقـراقـة تتـدفّـق من بين تجـاويف الصخـور، تنحـت الوهـاد في صمـت مهـيب، وتخـط مسـاراتهـا في اتجـاه عمـق الـوادي.
وفي الأفـق، كانت المـاعـز الجـبلـية تتقـافـز بخـفـة مذهلـة على الحـواف الوعـرة. 
هنـاك، خُـيّل إلـيّ أننـي على مشـارف بــاب خـفي، يفـضي إلى درب غـامض يمـتد نحـو ذاتـي المخـبوءة.  
كانـت خطـواتي أشـبه بنـداء داخـلي، بحـث حـثيـث عن شـيء انسـلّ مـني في غيـاهب المـاضي.
جـثوت عنـد المنبـع، غمـست كفّـي في بـرودة المــاء، ومرّرتـه على وجـهي، فانـزاح عني غـبـار التيـه، وتسـرّبت نفـحـة صفــاء إلى أعمـاقي، فاستعـادت شـيئـا من أنفــاسي التي أنهكـهـا صخـب المـدن.  

 لـم تكن الرحلـة صعـودا نحو الأعـالي، بـل كانـت غـوصـا هـادئـا في دواخـلي.     

يحـملـني الزمـن إلى ذلك المسـاء البعــيد ... 
حـين كنـا نخـطو طريـق العـودة على إيقـاع الغـروب، كانت الريـح تنثـر خلفـنـا عـبق المغـامـرة، وأغصـان اللـوز تـرفـل برقـة، كأن الأرض بـأسـرهـا تهـمس بلحـن الـوداع. 
يـومـهـا، بـدا الطريـق ممتـدا بـلا نهـاية، وكأن الزمـن يتهـادى معـنـا ببـطء متثـاقل.

كـان "أمغـنـاس" يتقـدمنـا بصمـت وقـور، فيمـا ظـلّ "أمـنـاي" ينسـاب حـديثـه عن أسـرار الأعشـاب وحكـايـات الأرض.

لمـا بلغـنـا عـتبـة الـدار، تبـاطـأت خـطواتي، كأنني على تخـوم زمـنين :
أحـدهمـا ولّـى بـي، والآخـر ينحـتني بـصمـت وديـع.
دلفـت إلى البيـت.
كل الأشـيـاء هنـاك، كانت تغـزل صـدى الحكـايـات المنسـية، تلك التي تُـروى عنـد اعتكـاف المســاء :
عطـر الخـزامى اليـابسـة المعـلّقـة في الزوايـا، رائحـة العشـاء المنبعـثة من المطبـخ كدعـوة خفـية للبقــاء، صـوت المــاء وهو يتقـطّر من جـرّة قـديمـة، وهديـر الليـل يتـردد من خـرير النبـع القـريب ...

نـادتنـا لالّـة تيضّـا، إلى ركـن  وادع من البـيت، حـيث افـترشنـا الحصـير تحـت وهـج قنـديل عتيـق، وتحـلّقـنـا حـول قصعـة خشبيـة، تتوسطهـا تـاݣـلاّ سـاخـنة، تغـمرهـا بركـة زيـت الأرݣـان، وتعـلوهـا نكهـة السمــن البلـدي. 
غمسـنـا أنـامـلنـا في ذلك الخلـيط المبـارك، وفي كل لقـمـة كانت تنبـش من خـبـايـا مـاضيهـا فصـولا مطمـورة من تـاريـخ سـوس العـريـق. 
حـدّثتنـا عن أعـوام القـحط المـريـرة حـين اغـتربـت السمــاء، وشَـحّ المطـر وجفّـت الآبـار، حتى غـدا المــاء كنـزا يُـدّخـر في جـرار الطيـن، والخـبز يُقسّـم بين الأيـادي بقـدر من الرضـا. 
أمـا الأطفـال، فكانوا يلهثـون حـفـاة على هشيـم الحقـول اليـابسـة، يـلاحقـون ظلال الغـربـان كمـا لـو أنهـا أحـلام هـاربـة، ويضحكون ببـراءة لا تشـوبهـا همـوم الأرض.
خفـتَ صوتهـا فجـأة، وغمـرت عينيهـا دمعـة فـرح قـديـم، قـبل أن تهمـس عن يـوم زفـافهـا؛ حين عـبرتْ ممـرات الدوار بثـوب قشـيب ووشـاح مطـرّز على ظهـر بغـل مزدان بخـيوط الصـوف المصبـوغـة بلـون الزعفـران الذهـبي، وسط زغـاريد النسـوة وإيقـاعـات "الأحـواش"، وكانت أمّـهـا تسـير خـلفـهـا، تحـبس دموعهـا بطـرف ثـوبهـا. 
كنت أصغـي بـشغـف حتى غلـبني النعـاس، فانـزويـت بهـدوء في الغـرفة، وتمـددت على الفـراش، ومـا إن أرخـيتُ جفـنيّ حتى تنـاهى إلى سمـعي أنين الرِّبـاب يشـقّ سكون الليـل. 
أزحـتُ الستـارة قلـيلا، فوقـع بصـري على أمـنـاي، منكمشـا حـول موقـد صغـير، يحـدّق في الشـرارات المتطـايـرة، يغـازل أوتـار التّـازمّـارت المهتـرئـة (القـوس)، ويهمـس بتشلحـيت ... 
كـلمـات لـم أفلـح في استيعـابهـا تمـامـا، لكن وقعُـهـا انسـاب في أعمـاقي.

سـألـته :
– أمـنـاي، آش كتغـني ؟

رفـع رأسـه، وعـينـاه تلمعـان ببريـق غـامض، ثـم قــال :

"كنغـني على وحـدة كتقلّـب على ضـو كان سـاكـن فقلـبهـا، وضـاع."

ابتسمـتُ، وغـاصت أفكـاري في صمـت كرجـع الصـدى :

– «أتـراني جـئت إلى هـذا الـدوار أفـتش عن حـبّ ضـائـع؟ 
أم لألتـقي بمـا تبقّـى مـني بعـد طول الغـيـاب؟»

وفي أعمـاقي، دوّى صـوت خـافـت :

«مـا سـاورني شك يومــا أنكِ ستـأتيـن هنـا ... إلى منبـع الحكـاية.»

وحين آويـتُ إلى فـراشي، كان الليـل قـد عــمّ بسكـونـه الأرجــاء، أسـندت رأسـي إلى الوسـادة، وغفـوت على نغـمـة الرِّبـاب. 
فجـأة، راودنـي وقـع خـطوات وئيـدة تعـبر البـاحـة، تعقـبهـا طرقـة خفـيفـة على البــاب.
حبسـت أنفـاسي، وتـراءت لي لحـظة بين الحلـم واليقـظة. نهضت متوجـسة، فتحـت البـاب بحـذر، وصدى صريـره أيقـظ داخـلي ذكـرى بعـيدة.
وجـدت على العـتبة ورقـة مطوية بعـنـاية، حملتهـا بوجـلٍ.
وحين فـردتُهـا تحـت لهـب شمـعـة واهـنـة، تهـادت الحـروف بخـط "حـسن"، يحمـل نبضـه في كل سطـر :
 
«بلـغَـني وصـولكِ يـا فـاطمـة، 
وطيفـك لا زال يعـبرني كل مسـاء،
تصغـين لنبـض الأرض،
تـوقـظين الأرݣـان من صمـته الطـويل.
أنـا من هنـا أراك تعـبرين المجـرى إلى الصفصـافـة البـاسقـة،
وأسمـع ضحكتك تختلـط بـأهـازيج الجـدّات،
وبرائحـة الخـبز على حجـر الكـانـون.

هـا أنـتِ الآن تحت جـنح اللـيل تسمعـين أنيـن الرِّبـاب،
وتفككين نـداء الغـيـاب.» 

شـيء مـا ارتـجّ في صـدري ... كأن النبـض عــاد مـن منفـى بعــيد. 
التفـتُّ نحـو العـتمـة، إذ بـدا  نـداء خـافت انبعـث من جـهـة الغـيـاب.
لـم يكـن هنـاك سـوى صمـت اللـيل، ينفـث أسـراره في هـدير بهــيم.

تسـاءلـت : 
أهـو الشـوق ذاكـرة تحـترف التمـويـه، تخـفي وجـع الغـيـاب خلـف قنـاع الأمـل؟
أم أن الخـتـام يسـايرنـي بدهـاء خـفي، ليعـيدني من حـيث لا أدري إلى أول صفـحـة ؟ 

يتبـــع ... 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق