السبت، 5 أبريل 2025

الجـزء الخـامس عشـر من روايتي *صفـحـة من دفــتر قـديم* رحلة إلى بليونش

الجـزء الخـامس عشـر من روايتي
    *صفـحـة من دفــتر قـديم*

  ✍🏻 فاطمـة لغـباري

(رحـلة إلى بليـونش)

••• إثـر عـودتي إلى الربـاط، غمـرني شعـور بالفـراغ؛ 
كل زاويـة تذكـرني بلحـظة اختفـائـه.
 
تساءلت في أعمـاقي : 
"هل كان اختفـاؤه خـيـارا، أم أن الحـيـاة قـادتـه بعــيدا عـني؟

أخـذتنـي هذه التساؤلات في دوامـة لا تنتـهي؛ كل إجـابـة تفـتح بـابـا لسـؤال جـديد، وكل فكـرة تقـودني إلى فكـرة أخـرى ...

تملكني إحسـاس عمـيق بالحـاجـة إلى مـلاذ يهـدئ من رَوعـي ويعـيد لي السـلام الداخـلي، بعـد حصولي على إجـازة من عمـلي، توجـهت شمـالا نحـو "بليـونش"، تلك القـرية الساحلـية الهـادئـة على أمـل أن أجـد فيها مـا يخفـف من وطـأة الذكـريات.

عند وصولـي، عانقـني الجمـال الطبيـعي بسحـر بساطتـه ؛ البحـر الهـادئ بـدا كأنـه يـروي حكاياتـه القـديمـة، والوديـان المتدفقـة بميـاههـا العـذبـة المنحـدرة من جـبل مـوسى، تنسـاب نحـو الشـواطئ الفـيروزية الممـتدة على طـول السـاحـل، وكأنهـا نـداء للراحــة والهـدوء. 
عـزمت على الإقـامـة لبضعـة أيــام، بعــيدة عن صخـب المـدينـة وأعـبـاء التفكـير.

في الصبـاح التـالي، بـدأت يومـي بالجـري على طـول الشـاطئ، حيث كانت قـدمـاي الحـافـيتين تنغمـس في الرمـال النـاعمـة، ممـا كان يوقـظ حـواسي ويمنحـني طـاقـة متجـددة. 
ذلك النشـاط البـدني كان يُنعـش ذهـني، ممهّـدا لي الطريـق للإنغمـاس في الكتـابـة والقـراءة.

وفي المسـاء الذي أعقـب ذلك اليـوم، تسلقـت الجـبل حتى بلغــتُ صخـرة عـاليـة تطـل على البحــر، حـيث همـس الهفـيف في أذنـي، وتراقصت الأمـواج على أنغــام الغـروب، الـذي كسـى الأفـق حـلة من ألوانـه الدافـئة.
بينمـا كنت غـارقـة في ذلك المشهـد الساحـر، اقـترب مـني شيـخ مسـن، ذو لحـية بيضـاء قصيـرة، تبـدو على ملامحـه آثـار الزمـن، وعينـاه تحمـلان بريـق الحكمـة والتجـارب. جـلس بمحـاذاتي، وكأننـا نتشـارك لحـظة تـأمـل في جمـال الطبيعـة وروعـتهـا، وبعـد لحـظة من الصمـت، همـس قـائلا: 

"البحــر، يـا بُنَيّـتي، مستـودع لأسـرار لا تُحـصى، وأنـتِ تبـدين كمـن أودع سـرّه في أعمـاقـه."

نظـرت إليـه بدهـشة متسائلـة : 
"كيـف عـرفتَ ذلك؟"
 
ابتسـم ابتسامـة ودودة، فأجابني بنبـرة هـادئـة: "العـيون مـرآة الـروح تكشـف مـا يخفـيه القلـب."

 ثـم أضـاف : "اسمـي الحـاج منصـور الأنـدلسي " نشـأتُ هنـا في "بليـونش" في كنـف عائلـة أنـدلسيـة. 
في شبـابي، كنت بحــارا أجـوب هذه المـيـاه، وأعـرف خفـاياها كما أعرف كـفّ يـدي. وتعلـمت من كبـار السـن حكايات عن أصولـهم وتـاريخـهم."

قلـتُ لـه باهتمـام : "لا بـد أنك تحمـل في جعـبتك الكثيـر من الحكايات عن هذه القـرية وتـاريخهـا"
 
أومـأ برأسـه وقـال : "بليـونش قـرية ذات تـاريـخ عـريـق.
في العـصور المرينيـة، كانت مينـاءً يربـط المغـرب بالأندلـس، واستقـر بهـا العـديد من الأعـيـان والأشـراف، وكانت ملتـقى للتجـار والمسافـرين." 

سألتـه باستغـراب : 
"سمعـت أن الأندلسيين استقـروا فيهـا بعــد سقـوط غرنـاطـة. هل هـذا صحـيح؟"

  أجـابني مبتسمـا : 
"نعـم، بعــد سقـوطهـا لجــأ العـديد من الأندلسيين إلى بليـونش حـامليـن معهم ثقـافتهم وفنـونهم، ممـا أثـرى الحـيـاة في القـرية وجعلهـا تزدهـر."
ثـم أضـاف:
"بسـاتين الزيتـون والكـروم التي ترَينهـا هنـا هي من إرثهـم، وكذلك العمـارة الأندلسية التي لا تـزال آثـارهـا واضحـة في بعض مبـاني القـريـة القـديمـة."
 
قلـت متأملـة : 
"يبـدو أن لكل زاويـة هنـا قصـة ترويهـا" 

ابتسـم الحـاج منصـور وقـال :
"لكل حجـر، ولكل موجـة حكايـة. إذا رغـبتِ يمكنني أن أشـاركك المـزيد من القصص في الأيـام القـادمـة" 

شعـرت بأن كلمـاتـه تلامـس شيئـا عميقـا داخـلي، وكأنهـا تدعـوني لمواجهـة مشاعـري بـدلا من الهـروب منهـا.
في تلك اللحـظة، أدركـت أنني لم أكن أهـرب فقط من غـيـاب 'حسـن'، بـل من نفـسي أيضـا، ومن الذكـريات التي تلاحقـني من كل جـانب. 
مع مـرور الوقـت، أصبحـتْ لقـاءاتي مـع الحـاج منصـور جـزءا من روتيـني اليومـي في بليـونش.
كل مسـاء كنـا نجلـس على الصخـرة المطلـة على البحــر، حيث كان يـروي لي قصصا من المـاضي، وأنـا أستمـع بشغـف، كنت أجـد في كلمـاتـه عـزاء وسلـوى.
تعلمـت منـه أن البحــر، رغـم هدوئـه الظاهـر، يُخـفي في أعمـاقـه عواصف وأسـرارا، تمـامـا كمـا هو حـال البشـر. وأن مواجهـة الأمـواج العـاتيـة، تستلـزم الشجـاعة والصبـر، مثلمـا تتطلـب تحـديـات الحـيـاة.

في نهـاية إقـامتي في بليـونش، شـعرت بأنني تركـت جـزءا من حـزني هنـاك على تلك الصخـرة، مـع حكايات البحــر وحكمـة الحـاج منصـور.
وعندمـا حـان وقـت الرحـيل، ودّعـني قـائلا :

" تذكـري دائمـا، كما أن للبحــر مـدّا وجـزرا، فإن للحيـاة دوراتهـا، ومـا يغـيب قد يعـود في وقـت مـا." 

غـادرت بليـونش، ومـع كل وداع، ينبثق أمـل جـديد، ومـع كل رحلـة، تكتشف الـروح طريقهـا نحـو الشفــاء.  

إلى صفـحـة قـادمــة ... 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق